لا تعجبْ، فحين كنتُ في عزاء جارنا الحبيب، جالتْ عيني تبحث عن أي أثر له،
أي شيء يوحي بأن هذه الدار كانت له، وبأنه عاش فيها أمدًا احتضنت فيها
صوته وحركاته وسكناته، حتى خِلتُ أنني أخطأت العنوان.
كان للغياب رائحة مميتة، كرائحة الغبار المتراكم منذ سنين على أشياءَ لم
يلمسها أحدٌ، بالرغم من أنه رحل بالأمس فقط، فلم يمضِ على وفاته إلا بضعُ
ساعات مشحونة بالألم والحزن.
مجموعة من الجالسين للعزاء، هم فقط مَن يعيدون لعقلي الإدراك، حيث يذكُرونه، ويثنون على نُبله وخُلقه، وتقواه وورعه.
يا لله! رحل صاحبي بكل جمال صفاته، وبكل ثقل أمانته، لم يتبقَّ منه سوى الحديث السادر بين الحاضرين، ولا شيء آخر.
هل سأرحل عن الدنيا بانقضاء عمري، أو سيكون لدي عمر آخر؟!
هل سأكون مثله؟! بِمَ سيتذكرني الباقون بعد الرحيل؟! على ماذا سيثنون؟!
علامَ سينتقصون؟! علاقاتي مع الآخرين، بمَ اتَّسمت؟ ما الطابع الذي أخذته؟
هل طبقت مبدأ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}
[الحجرات: 10]؟ هل كان للتعاطف، للعفو، للإحسان نصيبٌ، أو أنها غابتْ خلف
اللَّهاث المجنون وراء دنيا فانية؟ هل صغت حديثي بكل عذوبة، وأهديته
لإخوتي بكل رقة، أو كنت فظًّا، جافًّا، لا أراعي مشاعر الآخرين، ولا أعبأ
بها؟
فلان، ماذا سيقول عني؟ جاري الذي لم أره منذ سنوات، أين موقعي في خارطته؟ ربما سيقول لا أعرفه.
قريبنا الذي مرض، فلم أستطع زيارته لانشغالي.
عمتي رقيقة الحال، ذات الظروف الصعبة، كنت منذ سنوات أرسل لها ما تجود به النفس، ولكن حين بدأت "العمار"، انقطعت مرغمًا.
هؤلاء الصبية الذين حضروا معي، أبنائي، مَن أنا بالنسبة لهم؟ لقد سرقتْني
المشاغل من عفويتهم ولهوهم، أصبحت أراهم فقط، لم أعد أسمع أصواتهم حولي.
زملائي في الدراسة، في العمل، التقيت بوجوه عابرة كثيرة، ماذا تكنُّ لي؟ ماذا ستتذكر؟
ومحمد، ذاك الذي جاء إلى شركتنا شابًّا طموحًا، لقد صعد بسرعة البرق، قال
المدير عنه بأنه كفاءة واعدة، حسنًا، لم يكن يرى بعض الهفوات الصادرة عن
تقاريره، لقد تطوعتُ بأن أريه ما لم يَرَه، كتبتُها في خطاب موجز،
وأرسلتها إلى الإدارة، وحين نُقِل من إدارتنا، وعيِّنتُ بديلاً عنه، جاءني
مهنِّئًا، وهمس في أذني: لا تحسب مكاسبك إذا خسرت الإنسان فيك، لماذا؟ لقد
كنت أريد مصلحة العمل، هل حقًّا كنت أريد ذلك، أو كان لرغبات النفس
النصيبُ الوافر؟
وتلك المرأة، التي تعاشرني منذ سنوات، ما أكون لديها؟ حبيبها المفدَّى؟
رفيق طريقها الذي شاركها الفرحة والحزن، الذي تقاسم معها أمنياتها
وأحلامها، أو زائر منتصف الليل الذي يأوي من سهرته مرهقًا، متعبًا؟ لم أكن
أضن عليها بمالي وما أملك، فهل هذا كافٍ لتتذكرني، أو ستعد لأيامها
الباقيات مع رجل غيري؟
أخذت ألهث بشدة، استرعيت انتباه الآخرين، لا أعرف ماذا حدث، إلا أن الآهة
اعتصرتْ قلبي، حين تذكرتهما - أمي وأبي - أواه! كيف مضت سنواتي بدونهما؟!
كيف سلوت بعدهما؟ أبي الذي كان نورًا يستضاء به، لماذا لم أقتدِ بسيرته؟
لقد كان يحثني على مكارم الأخلاق وعزيمة الرجال، قال: يا بُني، رحم الله
علي بن الأصمع؛ لما حضرتْه الوفاةُ، جمع بَنِيه، فقال: يا بَني، عاشروا
الناس معاشرةً، إن عشتم حنوا إليكم، وإن متم بكوا عليكم.
نعم، إنه الحنين، ذاك الذي يختصر المسافات، ويقربك من أقوام رحلوا من سنين
غابرات بعيدات، إنهم يفرضون وجودهم عليك؛ لأنهم تركوا حديثًا مختلفًا؛
لأنهم كانوا نماذجَ لا تتكرر، لم يغرقوا في ملذاتهم، ولم يعيشوا لذواتهم
فقط "عندما نعيش لذواتنا فحسب، تبدو لنا الحياة قصيرة ضئيلة، تبدأ من حيث بدأنا
نعي، وتنتهي بانتهاء عمرنا المحدود، أما عندما نعيش لغيرنا، فإن الحياة
تبدو طويلة عميقة، تبدأ من حيث بدأت الإنسانية، وتمتد بعدمفارقتنا لوجه هذه الأرض".
لقد صدمتني الفاجعة، ليس في جاري؛ بل في نفسي، وطفقتُ أبحث عن
شيءٍ، ما كنت فيما مضى حريصًا عليه، إنه الإخلاص، أعز مطلوب، وأثمن مفقود،
لماذا لم أعد أستحضره في كل طاعة، وأصطحبه في كل عطاء؟! وسألت نفسي
كثيرًا، في مسيرة عمري:
من راقبت؟ ممن خشيت؟ وعند أي منحدر مات الضمير فيَّ؟
قمت من مجلسي باكيًا، وحين هممت بالخروج سمعت صوتًا يقول: كان فلان - يرحمه الله...