الخليفة أبو جعفر المنصور و الأصمعي
كان أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي يحرص على أموال الدولة، فاشترط شرطاً على رابطة الأدباء أنه لا يعطي مالاً للشعر إلا لقول الشاعر،
أما إذا كان من منقوله ( محفوظ من قبل ) فلا يعطي عليه شيئاً.
وكان الخليفة يحفظ القصيدة من أول مرة، وعنده غلام يحفظ القصيدة من مرتين، وجارية تحفظ القصيدة من ثلاث . . . كمبيوتر!
فيأتي الشاعر المسكين وقد نظم قصيدة طويلة، طول الليل . . . :
•السلام عليكم يا أمير المؤمنين. - وعليكم السلام.
•أنا شاعر فحل. - وما فحولتك؟
•نظمت قصيدة طويلة. - إذا كانت من قولك أجزناك عليها.
•نعم من قولي. - قل.
فيقول قصيدته، . . . فيقول الخليفة : إنني أحفظها من زمن بعيد . . . ويقولها له .
فيعجب الشاعر ! توارد أفكار في بيت أو بيتين ممكن، أما في القصيدة كلها ! كيف حدث هذا ( يكلم نفسه ).
فيقول له الخليفة : لا، وهناك غيري . . . أحضروا فلان، فيحضروا الغلام من خلف الستارة ( من الباب السري ) ثم يدخل، تعرف قصيدة فلان ؟ نعم ، . . . فيقولها .
فيقول الشاعر : هيه ! . . . . فيشك أنه الشاعر.
فيقول الخليفة : لا، وهناك . . . . أحضروا فلانة.
فتأتي فلانة . . . تحفظين ؟ نعم ، فإذا قالتها قال الشاعر : لا ، أنا لست الشاعر، ويذهب.
وهناك في مكانهم يجتمعون، وفي أعماق الحزن يتشاكون ويتلاومون. فجاءهم الأصمعي :
ما بكم يا قوم ؟ ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما بلغنا ؟ نكتب القصيدة طول الليل من بنات أفكارنا، ثم نكتشف أن ثلاثة يحفظونها قبلنا.
قال : أوقد حدث ؟ قالوا نعم.
قال أين ؟ قالوا : عند أمير المؤمنين.
قال إن في الأمر مكر . . وحيلة . . . دعوا الأمر لي.فقام ، ونظم قصيدة ملونة الموضوعات، التقط فيها بعض الكلمات، ثم تنكر حتى لا يعرف، لَبٍس لبس الأعراب، جدل شعره جدائل وأوقفها كالقرون، ثم ربطها بعصابة، ثم لبس جلد شاة، وجر ناقته خلفه، ودخل المجلس حافياً.
•
السلام عليكم يا أمير المؤمنين. - وعليكم السلام.
•
أنا شاعر من أعراب الموصل. - تعرف الشرط ؟
•
نعم، إذا كانت من قولي أعطيتني وزن الذي كتبته عليها ذهباً، وإذا كانت من منقولي لا تجزني عليها شيئاً.- قال : صدقت . . . قل . . . . واسترخى الخليفة . . .
فقال الأصمعي :
صوت صفير البلبل . . . هيـج قلــــب الثمــل.
المـاء والزهر معـاً. . . مع زهر لحظ المُقل.
سهلة . . . نعم سهلة . . . طاق طاق طاقية . . . رن رن يا جرس . . .
وأنت يا سيدلي ورموللي. . . فكم، وكم سُمَيِّلي غُزيِّلٌ عُقيقلي.
قطفته من جنة. . . من لثم ورد الخاجلي.
فقـال لا لا لللا. . . وقد غــدا مهــــرولي.
أراد الخليفة أن يحسب اللاآت فوجدها أكثر من ثلاثة ! . . .
والقود مالت طرباً. . . من فعل هذا الرجل.
فولولت وولولت . . . ولي ولي يا ويل لي.
فقلت : لا تولولي . . . وبيني اللــؤلؤ لي.
قالت له حين كذا . . . انهض وجد بالنُقل.
وفتية سَـــقونني . . . وقهوة كالعســللي.
شــممتها بأنفلي . . . أزكى من القرنفلي.
في وسط بستان حلي . . . بالزهر والسرور لي.
والعود تنـــتنـــلي . . . والطبل طب طب لي.
طبطب طبطب . . . طبطب طبطب لي.
والسقف قد سق سق لي . . . والرقص قد طاب لي.
الخليفة يحاول يجمع ذاكرته ما استطاع . . .
شوا شوا . . وشا هشا . . . على ورق زبرجلي.
وغرَّد القُمَّر ليصيح . . . مللٍ في مـــــــللي.
ولو تراني راكبــــاً . . . على حمار أهزلي.
يمشـي على ثـلاثـة . . . كمشـية العرنجــــلي.
والناس ترجم جملي . . . في السـوق بالمُقـللي.
والكل كعيكع كعيكع . . . خــلفي ومن حـوللي.
لكني مشـيت هاربـاً . . . من خشــية العقنـقلي.
إلى لقــاء مــــــــلك . . . مُعــظَّمٍ مُبجــــــــلِ.
يأمــــر لي بخِـــلعة . . . حمراء كالــدم دملي.
أجــرُّ فيها ماشــــياً . . . مبغــــدداً للحـــــــيل.
أنا الذي أنقل المـاي . . . من حي أرض الموصل.
نظمت قطعاً زخرفت . . . يعجـــــز عنها الأدبُل.
أقول في مطــــلعها. . . صوت صفير البلــبل.
عصر الخليفة ذاكرته . . . ما طلع له لا طنطن لي . . . ولا . . . قال : يا غلام . . . أحضروا الغلام . . . فإذا الغلام ! ! . . .
الجارية . . . يا جارية ؟ قالت : لا والله ما سمعت فيها من قبل يا أمير المؤمنين.
عندها قال الخليفة : يا إعرابي ، أحضر ما كتبته عليها ، نزنه، ونعطيك وزنه ذهباً.
قال الأصمعي : ورثت عمود رخام عن أبي . . . نقشت عليه القصيدة نقشاً . . . وهو على ظهر الناقة، لا يحمله إلا أربعة من الجنود . . .
فانهار الخليفة.
وجيء بالعمود والناس تنظر . . . فوضع في الميزان . . . وأخذ كل ما في الخزنة.